فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال بشر: ويلزمك أيضا أن تقول إن الله لم يزل يفعل ويخلق وإذا قلت ذلك فقد أثبت أن المخلوق لم يزل مع الله سبحانه وتعالى.
قال عبد العزيز فقلت له: ليس لك أن تحكم علي وتلزمني مالا يلزمني وتحكي عني ما لم أقل إذ لم أقل إنه لم يزل فاعلا يفعل فيلزمني مثل ما قلت وإنما قلت إنه لم يزل الفاعل سيفعل ولم يزل الخالق سيخلق لأنه الفعل صفة لله عز وجل يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع.
قال بشر: أنا أقول إنه أحدث الأشياء بقدرته فقل أنت ما شئت.
قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين قد أقر بشر أن الله كان ولا شيء معه وأنه أحدث الأشياء بعد أن لم تكن الأشياء بقدرته، وقلت أنا إنه أحدثها بأمره وقوله عز وجل عن قدرته فلم يخل يا أمير المؤمنين أن يكون أول خلق خلقه الله بقوله قاله أو بأرادة أرادها أو بقدرة قدرها فأي ذلك فقد ثبت إن هاهنا إرادة ومريد وقول وقائل ومقال وقدرة وقادر ومقدور عليه وذلك كله متقدم قبل الخلق وما كان قبل الخلق فليس هو من الخلق في شيء وكسرت والله يا أمير المؤمنين قول بشر ودحضت حجته إقراره بلسانه فقد كسرت قوله بالقرآن والسنة واللغة العربية، والنظر والمعقول، ولم يبق إلا القياس، وأنا أكسره بالقياس إن شاء الله تعالى.
قال عبد العزيز: وكان المأمون قد جلس منا مقعد الحاكم من الخصمين. فقال: هاته يا عبد العزيز وأوجز، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو كان بشر غلامان، وأنا لا أجد علمهما من أحد من الناس إلا من بشر، يقال لأحدهما خالد، وللآخر يزيد، وكان بشر غائبا عني فكتب إلى ثمانية عشر كتابا يقول في كل كتاب منها، أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب. وكتب إلى أربعة وخمسين كتابا يقول في كل كتاب أدفع إلى يزيد، ولم يقل: يزيد غلامي، هذا الكتاب، ثم كتب إلى كتابا جمعهما فيه فقال: أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب، وإلى يزيد ولم يقل: يزيد غلامي.
ثم قدم بشر من سفره، فقال: أليس تعلم أن يزيد هذا غلامي؟ فقلت له: قد كتبت إلى أربعة وخمسين كتابا تقول في كل كتاب منها أدفع هذا الكتاب إلى يزيد ولم تقل غلامي، ولم أسمعك تقول إنه أحد غلاميك، وأنا لا أجد علمه عن أحد غيرك. وكتبت إلى ثمانية عشر كتابا_ تقول في كل واحد منها_ أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب فعلمت إنه غلامك، ثم كتبت إلى كتابا جمعتهما فيه فقلت: أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب، وإلى يزيد ولم تقل غلامي، فمن أين أعلم أن يزيدا غلامك وأنت لم تقل بي قبل هذا الوقت إنه غلامك وليس أعلم خبرهما من غيرك.
فقال بشر فرطت، فحلفت أنا إن بشرا فرط، وحلف بشر إني أنا فرطت حيث لم أعلم إن يزيدا غلامه من كتبه، فأينا المفرط يا أمير المؤمنين. فقال: بشر المفرط، فقال بشر أي شي هذا مما نحن فيه.
قال عبد العزيز: إن الله أخبر في كتابه عن خلق الإنسان في ثمانية عشر موضعا، ما ذكره في موضع منها إلا أخبر عن خلقه.
وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا من كتابه فلم يخبر عن خلقه في موضع منها ولا أشار إليه بشي من صفات الخلق، ثم جمع بين القرآن والإنسان في موضع واحد وأخبر عن خلق الإنسان، ونفى الخلق عن القرآن. فقال عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ} ففرق بين القرآن وبين الإنسان، فزعم بُشر يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل فرط في الكتاب، وكان يجب عليه أن يخبر عن خلق القرآن، وقال الله عز وجل {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} فهذا كسر قول بشر في القياس والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال المأمون: أحسنت يا عبد العزيز، ثم أمر لي بعشرة ألاف درهم، فحملت بين يدي وانصرفت من مجلسه على أحسن حال وأجملها، قد أعز الله دين الإسلام وعز أهله وأذل الكفر وأهله فلله الحمد والشكر على نعمه كلها وعلى مننه وتوفيقه وتسديده.
قال عبد العزيز: فسر المسلمون جميعا بما وهبهم الله من إظهار الحق وقمع الباطل، وانكشف عن قلوبهم ما كان قد اكتنفها من الغم والهم والحزن وجعل الناس يجيئون إلى أفواجا حتى أغلقت بابي واحتجبت عنهم خوفا على نفسي وعليهم من مكروه يلحقنا، فقالوا: لابد أن تملى علينا ما جرى لنعرفه ونتعلمه، فتهيبت ذلك، وتخوفت سوء العاقبة، فلما ألحوا علي قلت: أنا أذكر بعض ما جرى مما لا يكون علي حجة في ذكره فرضوا بذلك، فأملين عليهم أوراقا يسيرة مقدار عشر أوراق مختصرة مما جرى لأقطعهم بها عني وعن ملازمة بابي، ولم يتهيأ لي شرح هذا كله لما تخوفت على نفسي مما يلحقني بعضه، وأنا أذكر ما لحقني بعد هذا المجلس وما جرى بسبب تلك الأوراق التي كتبها الناس عني في كتاب مفرد بعد هذا إن شاء الله تعالى آخر كتاب الحيدة.
قال عبد العزيز الَكِناني: وكان خلق ظهري وأنا في مجلس أمير المؤمنين المأمون أناظر بشرا المريسي على ما سأذكره في هذا الكتاب رجل ممن يعرف بالكلام والنظر، فجعل كلما سكت بشر وانقطع يحرضه على الكلام، وإذا أردت أنا أن أتكلم لا يزال يهذي خلفي ويقرب رأسه من أذني ليسمعني ويدهشني ويقطعني بذلك عن حجتي، فشكوت إلى أمير المؤمنين ذلك فصاح به وباعده عني، فلما قلت لبشر: ما من شيء كان أو هو كائن مما يحتاج الناس إلى معرفته وعلمه إلا وقد ذكره الله عز وجل في كتابه عقله من عقله، وجهله من جهله، فإذا ذلك الرجل يضرب يده على فخذه ويقول: يا سبحان الله تزعم أن كل ما هو كائن مما يحتاج إليه قد ذكره الله ما أعظم هذا وكيف يعلم ما هو كائن فيذكره؟
قال عبد العزيز: فالتفت إليه فقلت له أنت جهمي قدري أيضا وأنت تهذي دائما، ثم أقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن هذا الذي شكوت إليك أذاه منذ اليوم. هو جهمي قدري قد جمع الأمرين من جهتين، ينكر أن يكون الله يعلم ما يكون قبل أن يكون، فقال المأمون: هذا قوله، فقلت له: إن رأى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه أن يأذن لي حتى أكذبه وأكسر قوله وأدحض حجته وأبطل مذهبه بنص التنزيل الساعة.
فقال المأمون: لهذا وقت غير هذا ومجلس غير هذا تتكلم معه ومع غيره في القدر خاصة.
قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين ليس أطول إنما أحتج عليه بآية واحدة. فقال المأمون: قل ما تريد.
قال عبد العزيز فقلت له: أتنكر أن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون. قال: نعم. أنا أنكر هذا. فقلت: والله يا أمير المؤمنين لقد علم الله ما لم يكن، ولا يكون أن لو كان كيف كان يكون. فصاح الرجل ما أجرأك على الكذب الحمد لله الذي أخذك بلسانك.
فقال لي المأمون: أعد هذا الكلام يا عبد العزيز. فقلت له: نعم والله لقد علم الله ما لم يكن ولا يكون أن لو كان كيف كان يكون.
فقال لي المأمون: يا عبد العزيز هذا شيء تقوله من نفسك أو شيء تحكيه عن غيرك، فقلت له: هذا شيء أخبرنا به في كتابه الذي أنزله على نبيه- صلى الله عليه وسلم-، فقال لي المأمون: وأين ذلك من كتاب الله عز وجل.
قال عبد العزيز فقلت له: قال الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِفَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم هذا، وهذا ما لم يكن ولا يكون لأنهم لا يردون لا هم ولا غيرهم، فأخبر عز وجل بعلمه السابق فيهم أن لو ردوا ما كانوا فاعلين، ولن يردوا أبدا، فهذا ما لم يكن ولا يكون أن لو كان كيف يكون.
فقال لي المأمون: أحسنت يا عبد العزيز، وما قلت في يومك هذا أحسن ولا أدق من هذا. فقلت: قد أكذبت والله أهل هذه المقالة وكسرت قولهم ودحضت حجتهم وأبطلت مذهبهم بنص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير والحمد لله رب العالمين.
... تم كتاب الحيدة بعون الله تعالى وتوفيقه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وكان الفراغ من نسخه أواخر جمادى الأولى سنة 1191 واحد وتسعين ومائة وألف. والله ولي التوفيق.

.تفسير الآيات (4- 6):

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السماء وَالأرض وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأولونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكِناهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الله تعالى لا يقر من كذب عليه، فضلًا عن أن يصدقه ويؤيده، ولا يخفى عليه كيد حتى يلزم منه نقص ما أراده، قال دالًا لهم على صدقه منبهًا على موضع الجحة في أمره- على قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وجوابًا لمن كأنه قال: فماذا يقال لهؤلاء؟- على قراءة الباقين: {قال ربي} المحسن إلى بتأييدي بكل ما يبين صدقي ويحمل على أتباعي {يعلم القول} سواء كان سرًّا أو جهرًا.
ولما كان من يسمع من هاتين المسافتين يسمع من أيّ مسافة فرضت غيرهما قطعًا، لم يحتج إلى جمع على أنه يصح إرادة الجنس فقال: {في السماء والأرض} على حد سواء، لأنه لا مسافة بينه وبين شيء من ذلك {وهو} أي وحده {السميع العليم} يسمع كل ما يمكن سمعه، ويعلم كل ما يمكن علمه من القول وغيره، فهو يسمع سركم، ويبطل مكركم، ويسمع ما أنسبه إليه من هذا الذكر، فلو لم يكن عنه لزلزل بي، وقد جرت سنته القديمة في الأولين، بإهلاك المكذبين، وتأييد الصادقين، وإنجائهم من زمن نوح عليه السلام إلى هذا الزمان، ولعلمه بحال الفريقين.
وستعلمون لمن تكون له العاقبة، وقد أشار إلى هذا في هؤلاء الأنبياء عليهم السلام الذين دل بقصصهم في هذه السورة على ما تقدمها من الأحكام والقضايا {وكنا به عالمين} [الأنبياء: 51] {إذ قال لأبيه وقومه وكنا لحكمهم شاهدين} و{كنا بكل شيء عالمين} [الأنبياء: 88] {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} [الأنبياء: 109] {إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون} [الأنبياء: 110] {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] {ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} [النور: 55].
ولما كانت أقوالهم في أمر القرآن قد اضطربت، والإضطراب من أمارات الباطل، وكان وصفهم له بأنه سحر مما يهول السامع ويعلم منه أنه معجز، فربما أدى إلى الاستبصار في أمره، أخبر أنهم نزلوا به عن رتبة السحر على سبيل الاضطراب فقال: {بل قالوا} أي عن هذا الذكر الحكيم أنه {أضغاث أحلام} أي تخاليط نائم مبناه الباطل وإن كان ربما صدق بالأخبار ببعض المغيبات التي كشف الزمان عن أنها كما أخبر القرآن، ثم أنزلوا عن ذلك إلى الوصف موجب لأعظم النفرة عنه وعمن ظهر عنه فقالوا: {بل افتراه} أي تعمد وصفه من عند نفسه ونسبه إلى الله.
ولما كان ذلك لا ينافي كون مضمونه صادقًا في نفسه، قالوا {بل هو شاعر} أي يخيل ما لا حقيقة له كغيره من الشعراء، تتربص به ريب المنون لأنه بشر كما تقدم، فلابد أن يموت ونستريح بعد موته، وإليه أشار في آخر التي قبلها {قل كل متربص} [طه: 135] إلى أخره، فاضطربت أقوالهم وعوّلوا أخيرًا على قريب من السحر في نفي الحقيقة.
ولما كانوا يصفون القرآن بجميع هذه الأوصاف جملة، يقولون لكل شخص ما رأوه أنسب له منها، نبه الله سبحانه كل من له لب على بطلانها كلها بتناقضها بحرف الإضراب إشارة إلى أنه كان يجب على من قالها على قلة عقله وعدم حيائه أن لا ينتقل إلى قول منها إلا بعد الإعراض عن الذي قبله، وأنه مما يضرب عنه لكونه غلطًا، ما قيل إلا عن سبق لسان وعدم تأمل، سترًا لعناده وتدليسًا لفجوره، ولو فعل ذلك لكانت جديرة بانكشاف بطلانها بمجرد الانتقال فكيف عند اجتماعها.
ولما كانت نسبته إلى الشعر أضعفها شأنًا، وأوضحها بطلانًا، لم يحتج إلى إضراب عنه، وعبروا في الأضغاث بوصف القرآن تأكيدًا لعيبه، وفي الافتراء والشعر بوصفه- صلى الله عليه وسلم- لذلك.
ولما أنتج لهم ذلك على زعمهم القدح في أعظم المعجزات، سببوا عن هذا القدح طلب آية فقالوا: {فليأتنا} أي دليلًا على رسالته {بآية} أي لأنا قد بينا بطعننا أن القرآن ليس بآية؛ ثم خيلوا النصفة بقولهم: {كما} أي مثل ما، وبنوا الفعل للمفعول إشارة إلى أنه متى صحت الرسالة كان ذلك بزعمهم من غير تخلف لشيء أصلًا فقالوا: {أرسل الأولون} أي بالآيات مثل تسبيح الجبال، وتسخير الريح، وتفجير الماء، وإحياء الموتى، وهذا تناقض آخر في اعترافهم برسالة الأولين مع معرفتهم أنهم بشر، وإنكارهم رسالته- صلى الله عليه وسلم- لكونه بشرًّا، ولم يستحيوا بعد التناقض من المكابرة فيما أتاهم به من انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، ونبع الماء، والقرآن المعجز، مع كونه أميًا- إلى غير ذلك.
ولما أشار سبحانه إلى فساد طعنهم بما جعله هباء منثورًا، وتضمن قولهم الذي سببوه عنه القرار بالرسل البشريين وأياتهم، أتبعه بيان ما عليهم فيه، فبين أولًا أن الآيات تكون سببًا للهلاك، فقال جوابًا لمن كأنه قال: رب أجبهم إلى ما اقترحوه ليؤمنوا: {ما ءامنت} أي بالإجابة إلى الآيات المقترحات.
ولما كان المراد استغراق الزمان، جرد الظرف عن الخافض فقال: {قبلهم} أي قبل كفار مكة المقترحين عليك، وأعرق في النفي فقال: {من قرية} ولما كان المقصود التهويل في الإهلاك، وكان إهلاك القرية دالًا على إهلاك أهلها من غير عكس، دل على إهلاك جميع المقترحين تحذيرًا من مثل حالهم بوصفها بقوله في مظهر العظمة المقتضي لإهلاك المعاندين: {أهلَكِناها} أي على كثرتهم {وكم أهلَكِنا من القرون من بعد نوح} [الإسراء: 17]، {وما أهلَكِنا من قرية إلا لها منذرون} [الشعراء: 208]، {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} [الإسراء: 15] «وما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» وأشار بذلك إلى أنه لم يسلم عند البأس إلا قرية واحدة وهم قوم يونس لأنهم آمنوا عند رؤية المخايل وقيل الشروع في الإهلاك، وهو إشارة إلى أن سبب الإيمان مشيئته سبحانه لا الآيات.
ولما كانوا كمن قبلهم إن لم يكونوا دونهم، حسن الإنكار في قوله: {أفهم يؤمنون} أي كلا! بل لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم حين لا ينفع الإيمان، وقد قضينا في الإزل أن لا نستأصل هذه الأمة إكرامًا لنبيها، فنحن لا نجيبهم إلى المقترحات لذلك. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله: {قَالَ رَبّي يَعْلَمُ القول فِي السماء والأرض وَهُوَ السميع العليم} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرىء {قَالَ رَبّي} حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وقرأ الباقون قل بضم القاف وحذف الألف وسكون اللام.
المسألة الثانية:
أنه تعالى لما أورد هذا الكلام عقيب ما حكى عنهم وجب أن يكون كالجواب لما قالوه فكأنه قال إنكم وإن أخفيتم قولكم، وطعنكم فإن ربي عالم بذلك وإنه من وراء عقوبته، فتوعدوا بذلك لكي لا يعودوا إلى مثله.
المسألة الثالثة:
قال صاحب الكشاف: فإن قلت فهلا قيل له يعلم السر لقوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى} [الأنبياء: 3] قلت القول علام يشمل السر والجهر فكأن في العلم به العلم بالسر وزيادة فكأن آكد في بيان الإطلاع على نجواهم من أن يقول: {يَعْلَمُ السر} كما أن قوله تعالى: {يَعْلَمُ السر} آكد من أن يقول يعلم سرهم فإن قلت فلم ترك الآكد في سورة الفرقان في قوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السموات والأرض} [الفرقان: 6] قلت: ليس بواجب أن يجيء بالآكد في قوله في كل موضع، ولَكِن يجيء بالتوكيد مرة وبالآكد مرة أخرى، ثم الفرق أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول: إن ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة وثمة قصد وصف ذاته بأن قال: {أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر في السموات والأرض} فهو كقوله: {علام الغيوب} [سبأ: 48]، {عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3].
المسألة الرابعة:
إنما قدم السميع على العليم لأنه لابد من سماع الكلام أولًا ثم من حصول العلم بمعناه، أما قوله: {بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِئَايَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأولون} فاعلم أنه تعالى عاد إلى حكاية قولهم المتصل بقوله: {هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر} [الأنبياء: 3] ثم قال: {بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} فحكى عنهم ثم هذه الأقوال الخمسة فترتيب كلامهم كأنهم قالوا: ندعي أن كونه بشرًّا مانع من كونه رسولًا لله تعالى.
سلمنا أنه غير مانع، ولَكِن لا نسلم أن هذا القرآن معجز، ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدور البشر، قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك سحرًا وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا: إنها أضغاث أحلام، وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراه، وإن ادعينا إنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعراء، وعلى جميع هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزًا، ولما فرغوا من تعديد هذه الاحتمالات قالوا: {فليأتنا بآيةٍ كما أُرسل الأولون} فالمراد أنهم طلبوا آية جلية لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كالآيات المنقولة عن موسى وعيسى عليهما السلام، ثم إن الله تعالى بدأ بالجواب عن هذا السؤال الأخير بقوله: {مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ أهلَكِناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} والمعنى أنهم في العتو أشد من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا، فأهلكهم الله، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثًا.
قال الحسن رحمه الله تعالى: إنهم لم يجابوا لأن حكم الله تعالى أن من كذب بعد الإجابة إلى ما اقترحه من الآيات فلابد من أن ينزل به عذاب الاستئصال وقد مضى حكمه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم. اهـ.